المؤخر .. قلب السكينة وعمق الدار في البيت المكي

في بيوت مكة القديمة لم تكن الغرف مجرد جدران وأبواب بل كانت أرواحًا تنبض بكل ما مر عليها من قصص وأصوات وروائح وحركات. ومن بين هذه الزوايا الأصيلة في دار أبناء المرحوم أحمد محمد أزهـر رحمهم الله يبرز “المؤخر” كمساحة تحمل في داخلها هدوء الزمن ودفء العائلة واتساع القلوب التي سكنت فيها.

المؤخر .. 
غرفة خلفية في موقعها لكنها في الذاكرة مقدمة الصفحات.
مكان يبدو بسيطًا للعين لكنه غني بما يحمله من مشاهد الحياة اليومية وحنين الأجيال ودفء البدايات.

مكان يستتر .. لكنه يحتوي الجميع

يقع المؤخر عادة في عمق البيت بعيدًا عن ضوضاء الشارع محصنًا بجدران سميكة ونافذة صغيرة تنفذ منها النسمات بنعومة.
كان أشبه بـ قلبٍ ينبض داخل صدر الدار لا يراه الغريب مباشرة لكنه يؤثر في نبض البيت كله.

في هذا الركن .. 
كانت العائلة تجد خصوصيتها
وكانت النساء يجدن هدوءًا بعيدًا عن صخب الضيوف
وكان الأطفال يختبئون ويلعبون وكانت أسرار البيت تقال فيه دون أن تتسرب خارجه.

ملاذ النساء .. ومسرح الحكايات الطويلة

كان المؤخر مجلسًا مسائيًا لنساء آل أزهـر .. فيه تنسج الحكايات وتروى القصص عن الأيام الأولى:
    •    قصص الجدات عن مكة قبل التوسعات
    •    ذكريات الأعراس القديمة
    •    حكم الأمهات التي تسري في الدار كالعطر
    •    أخبار الجيران والأرحام
    •    تجارب الحياة التي تمنح للأصغر كهدية لا تقدر بثمن

لا يحتاج المؤخر لأثاث فاخر كي يكون جميلًا .. يكفيه مجموعة من القعدات التراثية وسراج خافت ورائحة بخورٍ يملأ الأجواء.
تصف فيه “التخوت” ووسائد التراث وتجلس النسوة متجاورات كأنهن دائرة ضوء تدور حولها الحياة.

المؤخر .. غرفة العمل الخفي للبيت

في الوقت الذي كان ظاهر البيت يظهر الضيافة والاستقبال كان المؤخر يمثل غرفة الإدارة الخفية للدار.

منه ترتب:
    •    شؤون المعيشة
    •    إعداد الملابس
    •    تجهيز الأقمشة
    •    إصلاح ما يحتاج إصلاحًا
    •    حفظ المستلزمات اليومية

كانت الجدة أو “ست الدار” تدير هذا المكان بحكمة لا تدرس .. تجمع فيه البنات والكنائن يتعاون في الأعمال المنزلية فيتحول العمل إلى جلسة محبة ويصير التعب جزءًا من ذكريات جميلة.

عالم الأطفال .. وضحكات لا تنتهي

كان المؤخر الجنة الصغيرة للأطفال بعيدًا عن أعين الضيوف وازدحام المجلس.
في هذا المكان تعلم أبناء آل أزهـر أولى خطوات اللعب وبنوا بيوتهم الصغيرة من الوسائد وابتكروا ألعابهم وركضوا بحرية ثم اختبأوا خلف ستائر أو صناديق كأنهم يخلقون لأنفسهم عالمًا خاصًا.

في المؤخر حفظت الجدران:
    •    ضحكات الطفولة
    •    بكاء الخوف الأول
    •    فرحة اللعبة الجديدة
    •    فخر الطفل الذي يساعد الكبار لأول مرة

هو المكان الذي كبر فيه الأحفاد .. وتشكلت فيه الكثير من الملامح والقيم التي حملوها في حياتهم.

المؤخر .. مساحة للراحة والتأمل

في ساعات الظهيرة حين يتوزع سكان البيت بين العمل والراحة كان المؤخر يتحول إلى ركن للعافية والسكون.
ينتصب سراج خافت أو يدخل ضوء ناعم من نافذته الصغيرة فتبدو الغرفة وكأنها حضن دافئ يخفف هم الجالس فيه.

كم من امرأة جلست فيه لتستريح قليلاً .. وكم من رجل دخل إليه ليبتعد عن صخب الشارع .. وكم من دعاء خرج صادقًا من هذه الزاوية التي لا يراها أحد لكنها تصل إلى السماء.

المؤخر كان زاوية صفاء يجد فيها كل فرد فرصة للسكينة .. حتى الإناء الذي يوضع فيه الماء كان له صوت خاص يقرع الهدوء كإيقاع مألوف في ذاكرة المكان.

غرفة النوايا الطيبة .. ودفتر أسرار العائلة

من يتذكر المؤخر يتذكر:
    •    العناية بالأبناء
    •    تجهيز الملابس قبل الأعياد
    •    لمة الشهر الكريم
    •    تجهيز الهدايا للحجاج
    •    إعداد الأطعمة الموسمية
    •    احتضان المرضى قبل أن تنقل خدمات الطب إلى المستشفيات

كان المؤخر بمثابة غرفة الرحمة في البيت. فيه تقدم الرعاية وتقرأ التعويذات وتحضر “الطلبة” التي كانت الجدات يقلنها للأطفال وفيه يتم تضميد الجروح الصغيرة ومسح دمعة الخوف وتخفيف حرارة المريض بقطعة قماش باردة.

هنا أيضًا كانت القرارات العائلية الكبرى تناقش في صمت وتدرس أحوال الأبناء وتتخذ التوجيهات التي تحافظ على تماسك الأسرة.

المؤخر .. ذاكرة تحيا في القلوب

ربما تغير الزمن وتغيرت البيوت وتبدلت أماكن الجلوس والخصوصية .. لكن المؤخر في دار آل أزهـر ظل في ذاكرة الأحفاد غرفة لا تشبه غيرها.

هو غرفة خلفية لم تكن في الواجهة لكنه كان واجهة المشاعر الحقيقية وعمق البيت وروح العائلة.

المؤخر هو:
    •    ضحكات صافية
    •    جلسات حكيمة
    •    حكايات نسائية أحلى من القصائد
    •    خطوات أطفال
    •    ريحة بخور
    •    وترتيبات يومية تدار بحب
    •    ومساحة ناعمة لصناعة أجمل ذكريات البيت المكي

من يكتب تاريخ دار آل أزهـر لن ينسى المؤخر .. فهو ليس مجرد غرفة بل صفحة من كتاب العائلة ومسرح للذكريات البيضاء ومكان للراحة وعمق روحي لا يغيب.

هو المكان الذي جمع النساء وربى الأطفال
وأدار تفاصيل البيت وحفظ أسرار الأيام…

المؤخر كما عرفه أهل مكة هو قلب البيت .. ومؤخر دار آل أزهـر كان قلبًا ينبض بالمحبة لسنوات طويلة.

✍️
بقلم : أ.د. عصام إبراهيم أزهـر